اعتقد الكثيـرون أنّ أدب الرسائل الّذي وُلـدَ مع الكتابة قد انطوَتْ صفحتُهُ مع القرن الثامن عشر. واعتقد آخرون أنّ ظهور الصحافة في القرن التاسع عشر قتَلَ الترسُّلَ بوصفه جنسًا أدبيًّا، إلاّ أنّ هذا الأدب ما انفكَّ يُسفِّهُ نُعاته، خارجًا بالرسالة من حيّـز المحادثة الثنائيّة المكتوبة، متخطِّيًا شـخصَ المُرسَل إليه، مُستهدِفًا «الرأيَ العامّ» و«جمهورَ القرّاء».
الرسالةُ اليوم لا ترى مانعًا من أن يتوزّعَ حِبْرُهَا بين الأجناس الأدبيّة (القصّة، الرواية، المسرح، الشعر) دون أن تفقد نكهتها الخاصّة. هي ذي في الوقت نفسه: قناة للتواصل «الحميم» أو «المشهَدِيّ» عَبْـرَ مختلف المحامل والوسائط. وسيلة للتعبيـر عن موقف. طريقة لكتابة السيرة الذاتية. ذريعة لتجديدالجدل الفكريّ. أسلوب من أساليب كتابة مقالةِ الرأي. فرصة لبناء سرديّةٍ خاصّةٍ، تصحيحًا أو استباقًا أو تفنيدًا لسرديّات أخرى كائنة أو ممكنة.
شهدت الرسائل الّتي بين أيدينا على محطّاتٍ أساسيّة في حياة فرويْد وزفايغ بين سنة 1908 وسنة 1939. هي من ثمَّ نظرةٌ مختلفة إلى التاريخ. كوّةٌ مفتوحة على خصوصيّات الرجليْن وفكرهما ورؤيتهما للعالم وأسلوبهما في الكتابة.إضاءةٌ مختلفة لقضايَا ما انفكّت تشغلنا في أيّامنا هذه: انهيار القِيم. غياب المُثل العليا. تطبيع العنف ومأسسة الحرب. ضبابيّة المستقبل. تراجيديّة المصير الفرديّ والجماعيّ أمام انفلات النزعات البهيميّة وإعلاء غريزة الموت.