مثلما توجد كرامة شخصية للأفراد، هناك كرامة حضارية للشعوب والأمم، ومن المفارقات، أن الكرامة الشخصية للفرد، لا يمكن أن تكتمل إلا بوجود هوية جماعية ذات كرامة حضارية لشعبه، ودولته، وكيانه الوطني، وإلا فإن تلك الكرامة تظلّ مجروحة، إن لم يكن على المستوى العام، فعلى المستوى الإنساني، الخاص.
بعض الأمم أسست كرامتها الحضارية منذ القِدم، عبر تاريخ طويل مشرق، عادة ما يُطلق عليها مهود الحضارة، ومفردها مَهد؛ ومنها بلادنا. بعضها حافظت على تلك الكرامة، وبعضها الآخر تآكلت كرامتها كما تآكلت حجارة أعمدة معابدها وتماثيلها، وقصورها، وشواهدها المدهشة، وإن بقيتْ معارفها، لأن الرياح وعوامل الطبيعة الأخرى، يمكن أن تذري القصور، لكنها لا تستطيع أن تذري المنجز الثقافي، بمختلف فروعه.
هذه المقالات (المختارة) كُتِبتْ ونُشِرَتْ على مدى خمس سنوات، في جريدة "القدس العربي"، في حين نُشرت الشهادات في صحف ومجلات أخرى، وبعضها قدِّم في مؤتمرات، وقد تمّ ترتيب محتويات الكتاب في ثلاثة أقسام، مع مراعاة تسلسل تواريخ نشرها في القسم الثاني، لأن هذا الترتيب أشبه ما يكون بالتطوّر الدرامي الذي عصف بفلسطين ومواقف الأنظمة العربية منها في سنوات غادر فيها كلّ رماديّ موقعه ليلتحم بالظلام الكبير.
ما احتواه الكتاب محاولة لتأمّل ربع قرن مضى، تبدّلت فيه الأحوال، ولم تزل، ومحاولة لتأمّل تاريخ طويل باتّساع قرن، شهد صعود إمبراطوريات وأفول أخرى، وتغيُّرَ أقنعةٍ ما لبث أن غدا تغيُّرًا في الوجوه، وحكاية شعب، رغم ذلك كلّه، يدرك أن فلسطين وجهه وقلبه وقِبْلته، ومحاولة لتأمّل الثقافة، عربيا، وفلسطينيا، ودوْرها، وإشعاعها رغم محاولات خنقها ومحوها، ومحاولة لتأمّل مأزق عدوِّ، رغم كلّ ما حقّقه من انتصارات، لم يستطع أن يضع نقطة في آخر سطر صراع وجودنا معه، ومحاولة لتأمِّل وهْمِ أولئك الذين يعتقدون، طائعين أو مُرغمين، أن ثمة أفراحًا يمكن أن تكون في حفلات رقصهم مع الضِّباع.
هذا الكتاب محاولة لقول شيء ما، في هذا كلّه، كي لا يُقال ذات يوم: لماذا صمتَ الشعراء والكتاب والفنانون