كتبت هذه الرّواية في ظل الحزن بعراجينه السّود، وفقده العارم المؤذي. وهي تستبدل الحاضر بمواقيت قديمة راسخة وضاغطة وموشومة في الجسد والرّوح، وتستحضر الأقفاص التّي عاشت فيها لسنوات (العائلة، المدرسة، المجتمع)، وتستقرئ رحلة الطائر الذّي فقد بمرور السّنوات جناحيه، ولكنّه لم يفقد حلم السّفر أبدا. وهذا النصّ نصّ طازج، ملئ بالحياة، مقتطف من حقول النّفس في جميع حالات النّفس، فيه جلاء وصدق وصراحة نادرة، ولكنّه واقع تحت سيف الخوف والإخفاء وسلطات المجتمع التّي تزعم الذّات دحضها ومقاومتها.
تتوسّل الرّاوية بفنّ المذكّرات، وتفتح في الفصول المتتالية مساحات سرديّة من حياتها بعد تصفيتها بمصفاة الحزن، تزيل منها أمورا هي من صميم السّرد، وتقع فقط على "النقاط الكبيرة"، في تلك النقاط يتلبّس بها حزن بلا قلب، وتصفو نفسها، وتتجلّى انفعالاتها، وتنزوي، وبعيدا عن قرف الحياة وآلامها تتأمّل ما حدث، محاولة استقراء كفوف الغد وما تخفيه.
نتساءل، ونحن نقرأ، هل هذا الكتاب سيرة؟ أم رواية تئنّ تحت سيرة صاحبتها المتعبة بتفاصيل ماضيها وماضي بلدتها؟ هل هذا الكتاب سيرة أم خطاطات أصليّة عميقة لعمل سردي سيري ماثل بتمامه في ضمير الكاتبة؟ هذه الأسئلة تعني أنّ هذا الأثر واقع تحت ثقل فكرته المسبّقة وتحت الغاية التّي وضعت له مسبّقا، وهي أن ينكأ الجراح التّي لم تبرأ، ويسدّ أودية الوجع التّي لم تتوقّف، ويطهّر أثر اليد الطولى للأب التّي لا يزال وقعها غائرا في النّفس. لكنّ الكتاب ليس هذا فقط، الكتاب لحظتان هما عمر الكاتبة، هما لحظة القول المشروطة بشروط العائلة وطبيعة الوضع الاجتماعي وطبيعة ما يقال وما لا يقال، ولحظة التذكّر النّابت في الحاضر مثل نصل صدئ، والمؤثّر في كلّ السّرد السّابق واللاّحق.