العقلُ نعمةُ الله الكبرى على الإنسان، هو في الدين مَناطُ التكليف ومحلُّ المخاطبة، وهو للدنيا عِماد، وبتمام العقل في الإنسان صارَ الدينُ عليه واجبًا؛ أما الدنيا فلا يمكن أن تسيرَ بغير عقلٍ لأنَّه مُدبرُها الفعّال، ومن طريقه تُعرَف حقائقُ الأمور وتسير مصالحُ الناس وتتيسَّر منافعهم التي لا تقوم الدنيا إلا بها، فيصلح التعاملُ فيما بينهم بصَلاح الفكر واستقامته حتى في أصغر الأمور. ورغم أنَّ البشر يختلفون في أغراضهم ومآربِهم إلا إنَّ العقل هو وسيلةُ التفاهم الوحيدةُ المُمكنة فيما بينهم. وما اللغةُ إلا تعبيرٌ عمّا يدور في عقل الإنسان كما أنها تعبيرٌ عن مشاعره؛ غير أنَّ المشاعر بدون عقل وسيلةُ دمارٍ لأنها حينئذٍ تكون سبيلَ الوهْم، وحتى لا نعيش في الأوهامِ يأتي هذه الكتاب. هذا الكتاب هو عملٌ مَعرفي قصدَنا به تجليةَ الوجه المشرق للحضارة الإسلامية وقيامها على العقل وانطلاقها منه، فهو إذًا ليس فقط سردًا تأريخيًّا لوجوه الحياة العقلية في الإسلام؛ بل هو في الوقتِ نفسه بيانٌ لقيمة استخدامِ العقل، وكيف أن النهضةَ الكبرى للمسلمين جاءتْ من خلال الفكر السليم البنَّاء. وبحقٍّ ما قيل: العقلُ أفضلُ مرجوّ، والجهلُ أنكى عدوّ.